عمران تاريخ للبيع ومعبد كـ عرش بلقيس
الجمعة 15 ربيع الثاني 1438ﻫ 13-1-2017م

 

الجزيرة برس – صنعاء- خاص – فايز الأشول – إذا كان معبد الشمس “بران”، في مأرب، بأعمدته السبعة، أبرز الشواهد على الحضارة السبئية، في الألف الأوّل قبل الميلاد، ففي قرية يشيع، في مديرية خمر (محافظة عمران)، معبد رئام، إله همدان (850 ق.م.)، بأعمدة سبعة حطّمت رؤوسها معاول الجهل، وتقاسمها الأهالي في أركان منازلهم وبواباتها، وبقايا الأعمدة والمعبد لا تزال مطمورة تحت الرمال، التي جرفتها السيول، وعجزت عن إزاحتها سواعد الفلاحين.
تماثيل ونقوش مسندية، ومخطوطات جلدية، وسيوف وخناجر، أشعلت هوس الشباب العاطل عن العمل، لنبش الخرائب بحثاً عن الذهب والنفائس، وكنز التبع اليماني أسعد الكامل، الذي تحكي النقوش مولده في يشيع، ويروي الكهول والعجائز أن الكنز محروس بالجن، وأن كل المحاولات للوصول إليه تبوء بالفشل، رغم إجماع الأهالي على موقعه في دار قديمة تتوسّط الخرائب القديمة، التي تكوّمت فوق بقايا القصر، الذي تدلّ عليه الأحجار المصقولة، ونقوش المسند في البعض منها، وإشارة الملك أسعد الكامل إلى مكان مولده في بيت من الشعر، وثقه لسان اليمن، الحسن بن أحمد الهمداني، في الجزء الثامن من الإكليل، يقول فيه التبع الكامل:
خمر مولدي وفي مسنديها 
مولدي حين تمّ نور الهلال
وعن المقصود بـ”خمر”، يشير المحقّق الأكوع الحوالي إلى أنها خمر الآثار، وتقع غربي خمر العامرة، التي هي الآن مركز المديرية، والسوق الأسبوعي لسكّانها. ويؤكّد على ذلك المؤرّخ محمد الأهنومي، الذي أوضح لـ”العربي” أن مولد أسعد الكامل في ظاهر همدان، وكانت قديماً تسمّى خمر، ويشيع في ظاهر همدان، ولا توجد آثار فيه تضاهي ما يوجد في يشيع، التي لا مثيل لها في المنطقة، إلا آثار كانط وناعط، في مديرية خارف، وبقايا آثار ملوكها.
مخطوطة جلدية للتوراة تباع بـ 50 ألف ريال
في مؤلّف “اليمن وأنبياء التوراة”، لفرج الله ديب، تذكر يشيع، على أن تسميتها الأولى “يشع”، وبأن سكّانها في الألف الأوّل قبل الميلاد اعتنقوا الديانة اليهودية. يؤكّد ما ذهب إليه الديب عثور مجموعة من شباب القرية على مخطوطة لـ”التوراة” في جلود غزلان، استخرجوها من منزل قديم، وبيعت قبل ثمانية أعوام بخمسين ألف ريال يمني لتاجر في صنعاء، يدعى شماخ. واقترنت يشيع، في كتب التاريخ، وأبرزها “الإكليل”، و”صفة جزيرة العرب” للهمداني، بـ”قصر يشيع”، الذي تحقّق منه الأكوع الحوالي، وأشار إليه في هامش “صفة جزيرة العرب” بأن يشيع قرية في ظاهر همدان، وبها قصر وآثار عجيبة قد أكل الدهر عليها وشرب. المهتمّ بالآثار، عصام القهبلي، الشاب الوحيد في القرية الذي تمكّن بجهد ذاتي من فكّ نقوش المسند، وقراءة المسانيد على الأحجار، يقول لـ”العربي” إن النقوش وكتب التاريخ تؤكّد أن تسمية يشيع نسبة إلى الملك يشيع بن بتع بن رئام بن علهن نهفن، في القرن الثامن قبل الميلاد، ويشير القهبلي إلى أن أحد نقوش المسند في القرية مدوّن فيه اسم الملك السبئي عمكرب، وفي نقش آخر بنو هوجين ابني يشيع. وفي الجزء الثامن من الإكليل، ذكر الهمداني عثوره على بيت من الشعر بخطّ المسند، يقول: 
وقصر يشيع حيث قرّ قراره 
لعمكرب ذي التاج منها ويرقما
تماثيل ومجانين وتوابيت صخرية 
تتربّع خرائب المآثر القديمة في يشيع على مرتفع صخري، تحيط بها بقايا سور القصر وبوّابة الشمس، آلهة السبئيين، وعلى يسارها مقابر، وجهتها شرقاً، نبش عدد منها، وعثر بداخلها على توابيت خشبية متآكلة، تضمّ هياكل عظمية، طول أقصرها يتجاوز المترين، عليها حلي، وبجانبها خناجر ورماح صدئة ومتكلّسة، وأواني حجرية وفخارية، وبين فترة وأخرى يصحو السكّان على قبور قديمة نبشت ليلاً، في محيط القرية. عدد من الشبّان الذين امتهنوا البحث عن الآثار والدفائن، بأدوات الزراعة والبناء التقليدية، كشفوا، لـ”العربي”، عن العثور على مخطّط منحوت في الصخر، تظهر فيه مكوّنات القصر، وما يحويه من ساحة رخامية وكرفانات للمياه وأبراج حراسة موزّعة في سوره الدائري، وموقع القصر داخل السور، حيث التماثيل والقطع النفيسة، التي ابتاعوا عدداً منها لتجّار في صنعاء ووسطاء لمهرّبي آثار إلى الخارج. المثير للدهشة أن عدداً من شبّان القرية أصيبوا بالجنون في عمليات حفر في الخرائب ليلاً، يؤكّد من كانوا برفقتهم سقوط كل واحد منهم مغشياً عليه في الحفر والمقابر والأنفاق، التي توصل مباني القصر ببعضها، ومنذ سنوات وإلى اليوم، ولم يتماثلوا للشفاء من فقدان عقولهم. في مدخل أحد المنازل القديمة عثر على تابوت صخري مقفل. يصفه صاحب المنزل بأنه محكم الإغلاق من كل الجهات، طوله يقارب الـ 3 متر، في عرض 2 متر، وارتفاع 2.50 سم، إستعصى على الفتح والكسر بكل الوسائل والأدوات التقليدية، وقبل ثلاث سنوات تمّ إحضار ثلاثة “كامبريشات”، التي تستخدم في خرق الصخور ليسهل تقطيعها. وعند تشغيلها لخرق التابوت الصخري، تتوقّف جميعها، يبعدونها عن التابوت فتشتغل، ويقتربون منه فتتوقّف، حتّى يئسوا من فتحه ومعرفة ما يحويه. عند أقدام القصر، يوجد سدّ قديم للمياه، أشارت إليه كتب عن تاريخ اليمن القديم باسم “سد عليان”، طمرت السيول أجزاء كبيرة منه بالأحجار والأتربة، وما تبقّى منه بركة ماء كبيرة، تمتلىء بمياه الأمطار الموسمية، عبر ساقية تمتدّ لأكثر من 15 كم، وظلّت لقرون المصدر الرئيسي لمياه الشرب. 

كل هذه المآثر، إلى اليوم، عرضة للعبث والإهمال


تمثال من البرونز بيد شاب لايعرف ماهيته
شيّد سكان يشيع منازل حديثة تحيط بالخرائب التي سكنوها قديماً، وما بقي قائماً صار مخازن لأعلاف المواشي، ومع حلول الظلام تبدأ الفؤوس والمجارف في نبش الخرائب بأيدي شباب لم يكملوا تعليمهم الأساسي ولايدركون قيمة وماهية ما يبتاعونه لمهرّبي الآثار. تمثال من البرونز يكشف لأوّل مرّة، لـ”العربي”، عثر عليه شاب بين خرائب يشيع، أكل الدهر أجزاء من معطفه، قابضاً بكفّه الأيمن على رأس خنجره الذي يلفّه حزام على خصره. لا يعرف الشاب أين يذهب به، فلا متحف ولا مكتب للآثار في المديرية. بعثات مهتمّة بالآثار قدمت من هولندا وألمانيا، في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، زارت القرية ووثّقت نقوشها والمآثر التي توجد بها، ومسؤولو الآثار في الحكومات اليمنية المتعاقبة لم تطأ أقدامهم القرية، التي لو جمعت أحجارها التي تحوي رسومات لتماثيل ملوك سكنوها ورؤوس حيوانات عبدوها، كالثور والوعل، ونقوشاً مسندية، لشيّد منها متحف من عدّة طوابق، يحوي الآثار الصغيرة والثمينة، التي بيع الكثير منها لتجّار في اليمن والخليج، استغلوا فقر وجهل البعض من سكّان يشيع، الذين تكدّست القطع الآثرية في منازلهم، ولم يجدوا فاترينة لعرضها، سوى جدران منازلهم الأسمنتية، واسطبلات الحمير، مخازن لحفظها إلى حين بيعها بما يسدّ حاجتهم المعيشية.
آثار مطمورة تكشفها سيول الأمطار
في كل زاوية في القرية القديمة تقابلك قطعة أثرية، نقش مسند، ميازيب صخرية لتصريف المياه من أسطح المنازل، أحجار شاهدة على القصر المكعّب الذي ورد ذكره في أكثر من مرجع تاريخي، أحواض قدّت من الصخر لاستخراج البذور من قشورها، ومطاحن للحبوب من الحجر الأسود، ومدافن لحصاد المزارعين في باطن الأرض، تحفظه لسنوات ولا يصيبه العطب، خرائب فوق خرائب، تؤكّد تقادم العيش في هذه القرية، وعمليات حفر بدائية تظهر آثاراً عجيبة، ومع غزارة السيول تتكشّف سراديب ومنازل لا تزال قائمة بجدرانها، التي تحوي أحجاراً بها كتابات مسندية، وفن معماري لم تتمكّن الآلات الحديثة حتّى من تقليده. المقابر تحيط بالقرية من كل اتجاه، ولا يعرف تاريخ للكثير منها، ولا من يرقد فيها من الموتى الذين يفوق تعدادهم الأحياء المقيمين بها اليوم. دهشة وتماثيل ومخطوطات ومسانيد، ظهر القليل منها، ولا تزال محتفظة بالكثير من نفائسها ودفائنها في محيط يجهل قيمتها التاريخية، وكيفية المساهمة في أن تكون القرية مزاراً سياحياً ومصنعاً بلا دخان.
المزارعون يحطّمون أعمدة معبد يماثل معبد الشمس في مأرب
كان قصر يشيع يطلّ على معبد رئام، الذي طمرتة السيول بالرمل والحجارة، واليوم هو قاع زراعي في واحد من حقوله، وقبل عشرين عاماً علقت حراثة مزارع بعمود صخري فانكسر تاجه العلوي، وبعد أن شاهده قام المزارعون بالحفر في الحقل، فوجدوا سبعة أعمدة مرتّبة كما أعمدة معبد بران في مأرب، المشهور بـ”عرش بلقيس”، تتميز عنها، بحسب مهتمّين بالآثار، بشكلها الهندسي المكعب السداسي، فيما أعمدة بران رباعية الأوجه، مستطيلة الشكل. عجز المزارعون عن الحفر إلى أسفلها، فاجتزوا أعاليها بالمعاول، وحمولها على ظهور الجمال إلى منازلهم، وأجزاء من عمودين زينوا بها أركان سطح مسجدهم في القرية. وبقي المعبد إلى اليوم مطموراً تحت الرمال، ولاتعرف هيئة الآثار عنه شيئاً. لكن ابن إسحاق يقول عنه “كان للهمدانيين معبود لهم، يُقال له رئام، إلى جانب عبادتهم للشمس مع بقية اليمنيين، وكانوا يعظّمونه”، ويتقربون إليه بالذبائح في محج خاص به، في ظاهر همدان، وكان يطاف به كذلك، وهو قول أكّده ابن هشام في سيرته، ووهب بن منبه في كتابه “التيجان”. كل هذه المآثر، إلى اليوم، عرضة للعبث والإهمال، بسبب حكم الأئمة لأكثر من ألف عام، خاصّة في شمال الشمال، وعدائهم التاريخي للقحطانيين، وتعظيم النسب الهاشمي العدناني، وما تبادلهم القدح وسجالات الهجاء مع نشوان بن سعيد الحميري، صاحب موسوعة “شمس العلوم”، وملاحقتهم وسجنهم للهمداني، وتغييب أجزاء من إكليله، إلا خير شاهد على ذلك. إلى جانب امتداد العزلة على المنطقة إلى اليوم، بسبب تسلّط بعض المشائخ القبليين، وتوجّسهم كما الأئمة، من رياح التغيير ودخول الغرباء إليها، وحفاظهم على حرمان أبنائها من التعليم، ووصمهم بالتخريب وقطع الطرق.

نقلا عن موقع العربي 

www.al-arabi.com

بالتنسيق مع الكاتب الزميل  فايز الأشول